• اقتصاد
    يونيو 25، 2024

    نظام دعم الأسعار في لبنان

    • لينا س. مدّاح، حسين طفيلي
    نظام دعم الأسعار في لبنان

    في إطار جهود المناصرة التي يبذلها المركز اللبناني للدراسات في سبيل تحقيق تعافٍ مستدام من انفجار مرفأ بيروت، يكون محوره ووجهته الإنسان وكرامة عيشه. وتماشيًا مع مساعيه الرامية إلى تعزيز العدالة الاجتماعية المُنصِفة والشاملة للجميع، وبناء الثقة بين الأفراد والكيانات الجمعية والحكومة اللبنانية، أقام المركز شراكة مع منظّمة الشفافية الدولية وفرعها الوطني، أي منظمة الشفافية الدولية لبنان- لا فساد، لإصدار "مرصد الإصلاح". ترتبط المواضيع التي يغطيها المرصد بمجالات الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، ويندرج نشره في إطار مشروع بناء النزاهة والمساءلة الوطنية في لبنان ("بناء") المموّل من الاتحاد الأوروبي. الآراء الواردة فيه لا تعكس بالضرورة وجهة نظر الجهة المانحة.

     

    ما هي القضية المطروحة؟

    في ضوء الأزمة الاقتصادية المستمرة، تراجع نظام الدعم في لبنان من حيث الكفاءة أو قابلية الاستمرار، وهو النظام الذي كان يُشاد به ذات يوم باعتباره شبكة أمان اجتماعي حيوية. صحيح أنّ الغرض الأبرز من دعم السلع الأساسية (الغذاء، والوقود، والأدوية) هو توفير شكل من أشكال الدعم للسكان المعرّضين للخطر اجتماعيًا واقتصاديًا غير أنه عجز في أغلب الأحيان عن الوصول إلى المجموعة المستهدفة، وأرهقَ ميزانيات الحكومة. وفي بعض الحالات، لدى دعم الوقود والقمح على سبيل المثال، كانت الأسر المعيشية ذات الدخل المرتفع تستفيد أكثر من سواها من فوائد هذا النظام.

     

    لطالما شكّلت هذه القضية موضوع جدال في الأدبيات والممارسات الاقتصادية. وبحسب إحدى الدراسات التي أجراها أرزي ديل غرانادو وآخرون Arze del Granado et al. )2012)، يُعتبر دعم الوقود لمساعدة الفقراء في البلدان النامية وسيلة عالية التكلفة لا سيّما أن الجزء الأكبر من فوائده يذهب إلى الفئات ذات الدخل المرتفع ــ حيث يتلقى الخمس الأكثر ثراءً ستة أضعاف الدعم الذي يتلقاه الخمس الأكثر فقرًا.

     

    في الواقع، تسبّب غياب الشفافية في نظام الدعم بتسهيل الفساد وتحفيز نشاط السوق السوداء. وانتشر تهريب السلع المدعومة على نطاق واسع، فاغتنى بعض الأفراد وحُرم من هم في أمسّ الحاجة للدعم. وأدّى هذا الفساد الشامل إلى تآكل ثقة الجمهور، كما سلّط الضوء على الحاجة الملحة لتعزيز الشفافية والمساءلة ضمن هيكلية الحكم في لبنان.

     

    لقد شكّلت الأزمة الاقتصادية عام 2019 نقطة تحوُّل، حيث اضطرت الحكومة إلى التحرّك واتخاذ الإجراءات أمام استنفاد الاحتياطي وتصاعد الدَين العام، فتمّ رفع الدعم تدريجيًا عن بعض السلع، مثل الوقود، مما أدى إلى زيادات كبيرة في الأسعار. غير أنّ غياب خطة إصلاح شاملة من جهة، وعدم كفاءة شبكة الأمان الاجتماعي من جهة أخرى، دفع بالعديد من السكان الضعفاء إلى الكفاح من أجل البقاء.

     

    عبء الدعم المتصاعد: لمحة عامة عن مرحلة ما قبل الأزمة

    قبل عام 2019، بلغت نسبة الدعم المستهلك 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان وفقًا لتقديرات البنك الدولي. هذا يعني أنه مقابل كل دولار تكسبه الحكومة، يتمّ تحويل عشرة سنتات تلقائيًا إلى الدعم، وهو رقم يتجاوز بأضعاف الاستثمارات في مجالات حيوية مثل البنية التحتية والرعاية الصحية.

     

    وقد تفاقم الضغط على الاقتصاد اللبناني بسبب الضغوط الكبيرة على الاحتياطي من العملات الأجنبية. وينبع هذا الضغط إلى حد كبير من الحاجة إلى دعم العملة المحلية من جهة، وتمويل الواردات من خلال الدعم من جهة أخرى. وكان البنك المركزي اللبناني قد وضع حدًا أدنى إلزاميًا للاحتياط الأجنبي عند 17.5 مليار دولار (Chehayeb, K., 2021). لكن بدا من الصعب الحفاظ على هذا المستوى مع استمرار برنامج الدعم المكلف الذي تجاوزت قيمته 3.4 مليار دولار سنويًا (LIFE, 2021).في الواقع، كانت هذه الإعانات ضرورية للحفاظ على أسعار السلع الأساسية وجعل الوقود في متناول السكان اللبنانيين، مما تطلب من البنك المركزي الاستمرار باستخدام عملته الأجنبية المحدودة لدفع ثمن هذه الواردات. ونتيجة لذلك، أدى تدفق العملات الأجنبية للإبقاء على الدعم إلى استنفاد الاحتياطي بسرعة، فكاد البنك المركزي يلامس خطر تجاوز عتبة الاحتياطي.

     

    عدم المساواة وعدم الكفاءة في تخصيص الدعم

    إلى جانب الضغوط المالية المباشرة على الاحتياطي اللبناني من النقد الأجنبي، خلق برنامج الدعم أيضًا تشوهات كبيرة في السوق. فمن خلال خفض تكلفة السلع الأساسية بشكل مصطنع، مثل الوقود والغذاء، أدّى الدعم الى تثبيط عمليات السوق الفعّالة.

     

    صحيح أن هذا الدعم يسمح بتأمين الإغاثة المؤقتة، غير أنه فشل في معالجة الأسباب الجذرية وراء ارتفاع الأسعار. ونتيجة لذلك، غالبًا ما أدّى إلى عواقب غير مقصودة، مثل نشوء الأسواق السوداء والتهريب، الأمر الذي أدى إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي. وعلاوة على ذلك، تسبّب الحفاظ المصطنع على الأسعار المنخفضة بإخفاء تكلفة السلع الحقيقية، مما ولّد أنماطًا استهلاكية غير مستدامة. في الواقع، عندما يتم خفض الدعم أو رفعه، يخلّف ارتفاع أسعار المواد الغذائية وقعًا مباشرًا على الجوع وعلى جودة النظام الغذائي، مما يؤثر بشكل غير متناسب على السكان الأكثر ضعفًا. ويؤكد هذا التفاعل بين الدعم وتشوهات السوق والضعف الاقتصادي على درجة الصعوبات المعقدة التي تواجه لبنان في إدارة سياساته الاقتصادية ورفاهه الاجتماعي معًا

     

    القمح مثلًا هو غذاء أساسي في لبنان. كانت واردات القمح المدعومة أرخص بكثير من القمح المنتج محليًا، مما أدى إلى تثبيط عزيمة المزارعين المحليين وإعاقة التنمية الزراعية المحلية. وتسبّب ذلك بالإفراط في الاعتماد على القمح المستورد، مما جعل لبنان عُرضة للصدمات الخارجية وتقلبات الأسعار. فمع اندلاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وهما بلدان رئيسان في إنتاج القمح، تسبّبت الاضطرابات في صادرات القمح بارتفاع حاد في أسعار القمح العالمية. وكان الوقع مباشرًا على لبنان الذي يعتمد بشكل كبير على القمح المستورد، مما زاد من إجهاد قدرته على توفير الغذاء بأسعار معقولة لمواطنيه.

     

    وأحد العيوب الأخرى الحاسمة التي تشوب برنامج الدعم هو تعذّر الوصول إلى أهدافه المقصودة بشكل فعال، حيث استفادت من الدعم الأسر المعيشية الأكثر ثراء بشكل غير متناسب. ويعود ذلك في المقام الأول الى ميل الأسر الأكثر ثراء إلى استهلاك المزيد من الخبز ومنتجات القمح الأخرى مقارنة بالأسر ذات الدخل المنخفض.

     

    حدثت تشوهات مماثلة في قطاعات أخرى. فحسب "مذكرة إصلاح الدعم" الصادرة عن البنك الدولي في عام 2020، كان نظام الدعم رجعيًا، وبخاصة على صعيد دعم الوقود الذي مثّل 65٪ من إجمالي تكلفة الدعم. ومن الجدير بالذكر أن جزءًا كبيرًا من الطاقة المدعومة استفاد منها أصحاب الدخل المرتفع بشكل غير متناسب، حيث يمتلك حوالي 80% منهم سيارات آلية مقابل أقل من 25% في صفوف الفئات السكانية الأكثر فقرًا. وخلص تقييم البنك الدولي إلى أن حوالي 55% من الدعم المتعلق بالطاقة يذهب إلى أغنى 20% من السكان، مما يؤكد على الحاجة الملحة للإصلاح.

     

    الفساد والأسواق السوداء

    أدّى الافتقار إلى المساءلة داخل نظام الدعم في لبنان في خلال فترة ما قبل الأزمة إلى خلق أرض خصبة للفساد وأنشطة السوق السوداء. وانتشر تهريب السلع المدعومة، مثل الأدوية والوقود. وبدلًا من وصولها إلى السكان اللبنانيين بأسعار معقولة، تم تحويلها وبيعها في السوق السوداء بأسعار أعلى بكثير. ووفقًا لنقابة أصحاب محطات البنزين اللبنانية، عبر أكثر من مليار لتر من الوقود الحدود بشكل غير قانوني، وقُدرت عائدات هذه التجارة غير القانونية بحوالي 235 مليون دولار أميركي سنويًا.

     

    الإجراءات المتخذة

    مع بداية الأزمة، حاولت الحكومة، البنك المركزي اللبناني بوجه خاص، الحفاظ على دعم السلع الأساسية مثل الخبز والأدوية والوقود من خلال بيع الدولار للمستوردين بسعر صرف أدنى بكثير من السعر في السوق السوداء. لكن مع الانهيار الاقتصادي، لجأت الحكومة أخيرًا إلى رفع الدعم جزئيًا. فبدءًا من عام 2021، على سبيل المثال، تم رفع الدعم عن الوقود وعن بعض المواد الغذائية بشكل تدريجي.

     

    وكاعتراف بمحدودية الدعم على السلع الأساسية لمساعدة الفئات الضعيفة، بدأت تظهر مقترحات بتنفيذ برامج التحويلات النقدية كبديل أكثر فعالية. وانطوت الفكرة على الانتقال من دعم السلع الأساسية إلى تقديم المساعدة النقدية مباشرة للجماعات المحرومة. غير أن التنفيذ كان بطيئًا ومليئًا بالتحديات، مما ترك العديد من الناس بدون دعم خلال مرحلة تخفيض الدعم.

     

    ما أهمية ذلك؟

    أكّدت التشوهات وعدم الكفاءة المتأصلة في برنامج دعم السلع الأساسية لتوفير شبكة أمان اجتماعي، على الحاجة إلى إصلاحات واسعة النطاق والى مساعدة دولية لضمان الاستقرار الاقتصادي وحماية الفئات الأكثر ضعفًا من آثار التضخم المفرط.

     

    ليست الشفافية والمساءلة مجرد مُثُل نظرية، بل هما مبدآن عمليان ضروريان، وبخاصةٍ في السياق اللبناني. فقد تسبّب غياب الشفافية على صعيد تخصيص الدعم والإنفاق، بسوء الإدارة والفساد والاستيلاء على الموارد من جانب النخبة، مما أدى إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وتعميق انعدام ثقة الشعب بالمؤسسات الحكومية.

     

    يقدم إطار عمل الاصلاح والتعافي وإعادة الاعمار 3RF مخططًا للتغلب على أوجه القصور النظامية في لبنان، مؤكدًا أن الإصلاحات على صعيد الحوكمة والشفافية أمران حاسمان لإصلاح نظام الدعم. لا بدّ من تنفيذ آليات الرقابة الصارمة وتعزيز المساءلة بغية إعادة بناء الثقة وضمان تخصيص الموارد بشكل عادل.

     

    تُبرز تجربة لبنان مدى حدّة المخاطر التي تنجم عن تجاهل الشفافية والمساءلة في صنع السياسات الاقتصادية. ولو جرى اعتماد مبادئ الإصلاح والتعافي وإعادة الاعمار في وقت سابق، لتجنّب لبنان العديد من المزالق والمطبّات. لذا، من شأن تبني صنع القرار الشامل وتصميم السياسات القائمة على البيانات أن يقود لبنان على طريق الصمود والمرونة، مع إعطاء الأولوية لاحتياجات الناس وتعزيز التعافي الاقتصادي المستدام.

     

    المراجع:

     

    Arze del Granado, F. J., Coady, D., & Gillingham, R. (2012). The Unequal Benefits of Fuel Subsidies: A Review of Evidence for Developing Countries. World Development, 40(11), 2234-2248. https://doi.org/10.1016/j.worlddev.2012.05.005

     

    Arndt, C., Diao, X., Dorosh, P., Pauw, K., & Thurlow, J. (2023). The Ukraine war and rising commodity prices: Implications for developing countries. Global Food Security, 36, 100680.

     

    Chehayeb, K. (2021, April 30). The weight of Lebanon's unsustainable subsidies program. Time. Retrieved from https://timep.org/2021/04/30/the-weight-of-lebanons-unsustainable-subsidies-program/

     

    Barakat, C. (2023, March 14). Explaining the 3RF in the Wake of the Beirut Blast [online] Retrieved from: https://lcps-lebanon.org/en/publications/explaining-the-3rf-in-the-wake-of-the-beirut-blast

     

    Dahham, J., Kremer, I., Hiligsmann, M., Hamdan, K., Nassereddine, A., Evers, S. M. A. A. E., & Rizk, R. (2022). Valuation of costs in health economics during financial and economic crises: A case study from Lebanon. Value in Health, 25(10), 1447-1455.

     

    El-Harakeh A, Haley SJ. Improving the availability of prescription drugs in Lebanon: A critical analysis of alternative policy options. Health Res Policy Syst. 2022 Oct 8; 20(1):106. doi: 10.1186/s12961-022-00921-3. PMID: 36209085; PMCID: PMC9547632.

     

    Lebanese Center for Policy Studies. (2023, January 11). After the end of subsidies in Lebanon: The need for an inclusive and comprehensive social protection strategy [online]. Retrieved from: https://www.lcps-lebanon.org/articles/details/2442/after-the-end-of-subsidies-in-lebanon-the-need-for-an-inclusive-and-comprehensive-social-protection-strategy

     

    LIFE Lebanon. (2021). REFORMING THE SUBSIDIES SYSTEM IN LEBANON. Retrieved from https://lifelebanon.com/storage/policy_papers/348d1a831e32baf7a626a64db88c2c39.pdf

     

    Dagher, Leila and Nehme, Raoul. (2021). Lebanon’s misguided government subsidies are quickly eating up its foreign reserves [Paper number 116138]. Retrieved from https://mpra.ub.uni-muenchen.de/116138/1/MPRA_paper_116138.pdf

     

    "Shadow Trade & Smuggling." Editorial Staff, The Badil Resource Center. March 8, 2023. Retrieved from https://thebadil.com/investigations/shadow-trade-smuggling/.

     

    The World Bank. (2020). SUBSIDY REFORM NOTE. Retrieved from https://pubdocs.worldbank.org/en/655991608648606400/Lebanon-Subsidy-Reform-Note-Dec-2020.pdf

     

    لينا س. مدّاح

    باحثة اقتصادية رئيسة في المركز اللبناني للدراسات. تشمل مجالات عملها التنمية الاقتصادية المحلية والاقتصاد المناطقي، والجغرافيا الاقتصادية، والمواقع الصناعية، وديناميكيات الشركات، والصناعات الثقافية والإبداعية. في رصيد مدّاح شهادة دكتوراه في الاقتصاد من جامعة روفيرا إي فيرجيلي في إسبانيا، وهي حاليًا أستاذة مساعدة في قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية. 

    حسين طفيلي

    باحث متدرّب في المركز اللبناني للدراسات. تخرج مؤخرًا من الجامعة الأميركية في بيروت وحصل على درجة الماجستير في الإدارة الهندسية. كما حصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من جامعة بيروت العربية.

اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية