• المالية والموازنة
    أبريل 27، 2020

    مبادرة القروض في ظلّ تفشي فيروس كورونا خطوة في الاتّجاه الصحيح

    • ندى مورة
    ندى مورا، محاضرة في الجامعة اللبنانية وزميلة أقدم في المركز اللبناني للدراسات
     

    تعرّض القطاع الخاصّ في لبنان لصدمتين كبيرتين في الأشهر الستة الماضية، الأولى أزمة داخلية نابعة من النظام المصرفيّ الذي يشكّل مصدر التمويل الرئيسيّ للمؤسسات والأُسر، والثانية أزمة اقتصادية عالمية بسبب وباء كوفيد-19. وفي ظلّ هذا الواقع، أصبحت توقّعات النمو العالمية سلبية فجأةً وسط ارتفاع معدلات البطالة بسرعة حول العالم وتزايد غير الأكيد بشأن حجم الركود الاقتصاديّ ومدّة استمراره. ويجد لبنان نفسه يكافح للتغلب على هذه الصدمة العالمية التي لا يملك خيارات كثيرة للوقوف في وجهها، ولا سيّما أنّه يعاني من الركود منذ فترة. إن القدرة الأقل على الاقتراض بمعدلات فائدة منخفضة تجعل من الصعب على الحكومة في لبنان وغيرها من اقتصادات السوق الناشئة أن توفر الدعم المادي الأخير للقطاع الخاص للصمود في وجه الأزمة.
     
    وعادةً، عندما يحصل ركود اقتصاديّ وينخفض الطلب إلى ما دون الناتج المحتمل، تلجأ الحكومات إلى تطبيق حوافز ضريبية ومالية، كخفض الضرائب وأسعار الفائدة لتشجيع الإنفاق على الاستثمارات التجاريّة، ما يدفع الشركات إلى استقدام مزيد من الموظفين ويجعل الموظفين بالتالي يطلبون مزيداً من السلع وهلمّ جرّا. ومع أنّ الأضرار الاقتصادية المترتبة عن فيروس كورونا تشبه ربمّا تلك التي نجمت عن الانهيار الكبير، إلا أنّ الإجراءات الواجب اتخاذها هذه المرّة مختلفة. فعوضاً عن تحفيز الطلب، يقضي الهدف على المدى القصير بإخماد العرض والطلب. فللحفاظ على الصحة العامة وعلى أرواح الناس، ينبغي أولاً إغلاق جزء كبير من الاقتصاد. وللحفاظ على معيشة الناس ومصادر رزقهم، ينبغي أن تقدّم الحكومات مساعدات إلى القطاع الخاصّ لكي يتمكّن من الصمود في ظلّ إجراءات العزل والإغلاق التي فرضتها الدولة. وقد أجمع صانعو السياسات[i] على هذا الواقع الاقتصاديّ الذي تمّت محاكاته نظرياً[ii]. فمن دون زبائن ومن دون مساعدات للقطاع الخاصّ، يؤدي انهيار الشركات السليمة والمُنتجة إلى إلحاق الضرر أولاً بالأفراد الذين يعملون في القطاعات الاقتصادية المعرّضة للتأثّر بالوباء، كالمطاعم وغيرها من المؤسسات التي تقدّم خدمات مباشرة. ونتيجةً لذلك، يقلل العاطلون حديثًا عن العمل من الطلب، ما يتسبب في إغلاق مزيد من الشركات والمؤسسات أبوابها وخسارة مزيد من الموظفين عملهم. وفي لبنان وغيره من الدول ذات الأنظمة المصرفية الضعيفة مثل إيطاليا، يؤدي توقف الشركات عن العمل دوراً أيضاً في الإفلاس المصرفيّ.
     
    لقد اختارت بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وإيطاليا، أن تركّز على دعم الشركات والمؤسسات لكي تتمكن هذه الأخيرة من الاستمرار في دفع رواتب موظفيها لتتفادى التدمير لعلاقاتها بهم. وتفضّل دول أخرى كالولايات المتّحدة الأميركية تحمّل المزيد من حالات الإفلاس والإغلاق للشركات، وتقديم الدعم بدلاً من ذلك إلى اليد العاملة من خلال دفعات نقدية مباشرة أو تأمينات ضدّ البطالة. وقد عمدت المصارف المركزية حول العالم إلى تسهيل سياساتها المالية إمّا بطريقة تقليدية (من خلال خفض أسعار الفائدة قصيرة المدى إلى الصفر) وإمّا بطريقة غير تقليدية (من خلال توفير السيولة لعدد من الأسواق المالية عبر الإقراض وشراء السندات)، وذلك من أجل الحفاظ على تدفق الائتمانات إلى المؤسسات والأُسر.
     
    وفي هذا الإطار، أصدر مصرف لبنان تعميماً يحمل الرقم 547 أعلن فيه عن تقديم تسهيلات إلى المقترضين الذين لديهم دفعات مستحقة في آذار أو نيسان أو أيار 2020 بما يتيح اعادة جدولة قروض العملاء من خلال السماح للمصارف بإقراض عملائها المبالغ الضرورية لتسديد المستحقات الشهرية خلال تلك الفترة. وفي المقابل، يقوم مصرف لبنان بإقراض المصارف المبالغ المعادلة. ويبدأ تسديد هذه القروض بدون فوائد في حزيران لمدة خمس سنوات، بالإضافة إلى تسديد أقساط القروض المستحقة سابقاً.
     
    ويشكّل هذا التعميم خطوة أولى إيجابية تتيح للشركات والمؤسسات استخدام القروض الجديدة لتسديد رواتب الموظفين والتكاليف التشغيلية الأخرى. ومن الحسنات الأخرى لهذه القروض الجديدة هو أنّها تتيح تسديد رواتب الموظفين مباشرةً وفقاً لجدول الرواتب يقدّمه العميل إلى المصرف، ما يحدّ من خطر استخدام العميل للأموال من أجل تحقيق منفعة شخصية. ويشمل التعميم أيضاً العملاء غير التجاريين الذين لديهم قروض عقارية أو قروض سيارات مثلاً، ما يساهم في تخفيف الأعباء المالية على الأُسر.
     
    لكنّ هذا التعميم له شروطه وقيوده، فهو يشمل العملاء الذين لديهم قروض مسبقة ليس إلا. وبالتالي، تشكّل هذه القروض آلية تسمح لمصرف لبنان بتقديم المساعدات أيضاً إلى المصارف لتجنيبها أيّ خسائر في رأس المال بسبب القروض المتعثرة. لكن مع التفشي المفاجئ لفيروس كورونا، بات الكثير من العملاء الذين لديهم حسابات مصرفية لكن ليست لديهم قروض يواجهون بدورهم ضائقة مالية. على سبيل المثال، أظهر مسح الاستبيان الماليّ الأخير الذي أجراه البنك الدوليّ أنّ 45% من اللبنانيين الراشدين لديهم حساب مصرفيّ رسميّ وأنّ 17% فقط من اللبنانيين حصلوا على قروض في السنة الماضية. وأقترحُ هنا أن يتمّ تقديم المساعدات أيضاً إلى العملاء الذين ليست لديهم قروض مسبقة لتجنب فقدان غير ضروري في الوظائف. ويمكن تحديد معايير التأهيل وقيمة القروض بحسب المستندات التي يقدّمها أصحاب الطلبات عن أوضاعهم قبل الأزمة. وينبغي أن تتعاون المصارف مع جميع العملاء الذين خسروا إيراداتهم مؤقتاً (من خلال السماح لهم بالسحب على المكشوف أو على خط الائتمان) وأن يدعم مصرف لبنان أسعار الفائدة لمدة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر للشركات والمؤسسات الجديرة بالحصول على ائتمانات والمستعدة لإنقاذ الوظائف. ومن القيود الأخرى للتعميم رقم 547 أنّ مصرف لبنان يشترط أن تكون القروض التي يقدّمها إلى المصارف بالدولار بغضّ النظر عمّا إذا كانت القروض التي تقدّمها هذه المصارف إلى عملائها بالليرة أو بالدولار. ومع أنّ هذا الشرط يحمي مصرف لبنان من خطر انخفاض قيمة العملة، إلا أنّه سيؤدي إلى تفاقم اختلال التوازن بين العملات في ميزانيات المصارف بما أنّه يتعيّن على المصارف الآن تسديد قروضها لمصرف لبنان بالدولار على مدى خمس سنوات.
     
    قد يتساءل البعض عمّا إذا كان توفير السيولة الاستثنائية يؤدي إلى تفاقم التضخم. في الواقع، إنّ هذا الخطر أكبر على المدى البعيد مع تعافي الاقتصاد وأقل على المدى القريب في ظلّ الركود الاقتصاديّ. فالتضخم ناجم حالياً من انخفاض قيمة الليرة بالنسبة إلى أسعار الاستيراد. ولو كانت السيولة الإضافية تؤدي إلى ازدياد كمية الأموال المتداولة، لتفاقم التضخم بسبب توفير المصارف المركزية للسيولة. لكن خلال الأزمات المالية، عندما تنخفض كمية القروض المصرفية، تنخفض معها كمية الأموال المتداولة. على سبيل المثال، انخفضت القروض الإجمالية المقدمة إلى القطاع الخاص في لبنان بنسبة 20% تقريباً منذ السنة الماضية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المجاميع النقدية (أي مجموع العملات والودائع). وهذا بالضبط ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية[iii] عقب أزمة 2008. ولكن، خلال مرحلة التعافي اللاحقة، يتعين على المصارف المركزية التنبّه إلى ازدياد القروض والسعي إلى إزالة فائض السيولة من خلال اعتماد سياسة نقدية أكثر تقييداً (مثلاً، عبر رفع الحدّ الأدنى للاحتياطي المصرفيّ) بغية تفادي مزيد من التضخم في السنوات المقبلة. باختصار، إنّ توفير السيولة الاستثنائية يكون اقل تأثيراً على خطر التضخم في ظلّ الظروف الاقتصادية العالمية الحالية. وفي الدول الصغيرة ذات الأنظمة الاقتصادية المفتوحة مثل لبنان، من المحتمل أن يؤدي عدم توفير السيولة اليوم إلى ارتفاع التضخم حتى على المدى القريب، ذلك لأنّ الامتناع عن تقديم القروض سيتسبب في توقف الكثير من الشركات والمؤسسات المحلية عن العمل، ما سيستتبع نقصاً إضافياً في انتاج السلع المحلية واعتماداً أكبر على الواردات التي تستمر أسعارها في الارتفاع بحسب قيمة الليرة.
     
    وفي الوقت الذي تمرّ فيه الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان بضائقة مالية، يمكن اللجوء إلى وسائل إضافية للحدّ من الأضرار الاقتصادية التي يتكبدها القطاع الخاص. فالقطاع الخاص ضعيف جداً لأنّه يتألف بغالبيته من شركات صغيرة لا يتعدى عدد موظفيها العشرين ويضمّ أيضاً الكثير من المؤسسات الفردية. ولا تملك الشركات الصغيرة مدخرات نقدية كافية تخوّلها الصمود في وجه الأزمة الاقتصادية. وفي حالة لبنان الفريدة، تُعتبر المدخرات النقدية المتوفرة في متناول اليد أعلى قيمة من المدخرات الموجودة لدى المصارف والتي تبقى مجمّدة جزئياً بسبب أزمة السيولة التي بدأت قبل تفشي وباء كورونا. ويهدف تعميم آخر أصدره مصرف لبنان في 3 نيسان تحت الرقم 148 إلى تسهيل إمكانية سحب الأموال لأصحاب الودائع الصغيرة (أقل من 3000 دولار). لكن ما زال من غير الواضح كيف سيتمّ تطبيق هذا القرار الذي قد يزيد في الواقع من انخفاض قيمة الليرة. وبالتالي، أقترح أن تتخذ الحكومة قراراً أحادياً بتأجيل دفعات الإيجار مؤقتاً للشركات الصغيرة، كما هي الحال في فرنسا[iv]. فغالباً ما تتكبدّ الشركات الصغيرة تكاليف مرتفعة بسبب الإيجارات، ومن شأن هكذا إجراء أن يسمح لهذه الشركات بالمحافظة على أموالها القليلة.
     
    ومن السياسات الأخرى التي قد تساهم في دعم الاقتصاد على المدى القصير وتحفيز النمو على المدى المتوسط إصدار الحكومة "سندات كورونا" بالليرة يمكن أن يشتريها المستثمرون المحليون من القطاع الخاص. وتُستخدم عائدات هذه السندات لتمويل مشاريع معينة تهدف إلى التعافي من فيروس كورونا، بما في ذلك مشاريع إقراض ودعم مجتمعية أو بلدية وللمؤسسات الصغيرة ورواد الأعمال الصغار الذين لم يشملهم التعميم 547. وقد أعلنت إيطاليا[v] عن سياسة مماثلة تقضي بإصدار سندات "بي تي بي" الجديدة الموجّهة إلى المدّخرين العاديين. وتعاني إيطاليا، تماماً كلبنان، من ارتفاع تكاليف الاقتراض الخارجيّ بسبب ديونها المرتفعة وسوء الإدارة المالية في الحكومة. ومن الممكن أيضاً أن يؤدي إنشاء سوق سندات جديد خاضع للإشراف المناسب ومتّسم بالشفافية إلى مساعدة لبنان في التوقف عن الاعتماد على المصارف دون سواها. لا يزال هناك في لبنان رأس مال خاص هام غير مستثمَر يمكن الاستفادة منه، وقد فقد الناس الثقة في النظام المصرفيّ وباتوا يحتفظون بمدخراتهم في المنزل أو يستخدمونها في الاستثمارات العقارية غير المثمرة. وبالتالي، يمكن الاستفادة من رأس المال الخاص في لبنان من خلال إقران سندات كورونا الجديدة بشروط جاذبة (مثلاً، من خلال اعتماد مبدأ الأقدمية، أو تقديم ضمانات على نمو الصادرات أو الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل، أو ربط مدفوعات الفائدة بمعدلات التضخم كما في إيطاليا) والحرص على تطبيق ممارسات حسن الإدارة (خلافاً لما اعتاده لبنان).
      

    [i] https://www.ft.com/content/01f267a2-686c-11ea-a3c9-1fe6fedcca75
    [ii] https://www.nber.org/papers/w26918
    [iii] https://libertystreeteconomics.newyorkfed.org/2011/05/will-the-federal-reserves-asset-purchases-lead-to-higher-inflation.html
    [iv] https://www.imf.org/en/Topics/imf-and-covid19/Policy-Responses-to-COVID-19
    [v] https://www.ft.com/content/79e14077-9174-438e-974f-fb8db0e5fda1
اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية