-
طاقةمارس 26، 2025
الشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسّطة والانتقال الطاقي: هل هي فُرصة للنموّ والازدهار؟
- مارك أيوب، أحمد دياب
لعبت الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة دورًا حيويًا في اقتصاد لبنان في فترة ما بعد الحرب الأهلية، إذ إنها تُشكِّل أكثر من 90 في المئة من المؤسّسات التجارية في البلد وتُساهِم بحوالى 50 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي[1]. وبالتالي، أصبحت تشكّل ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، حيث تؤدّي دورًا محوريًا في توفير فرص العمل وتنويع الأنشطة الاقتصادية، على الرغم من أنَّ القانون اللبناني لا يعترف رسميًا بتصنيفها (من حيث الحجم/عدد الموظّفين)[2].
لم تقتصر مساهمة هذه الشركات في الاقتصاد على الأرقام فحسب، إذ إنَّ الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة عملت في مجموعة واسعة من القطاعات. والواقع أنّ الاقتصاد انتعش بتنوّعها وأصبح أكثر قدرة على الصمود في وجه الصدمات الخارجية. غير أنَّ الانهيار المالي المتواصل منذ عام 2019، الذي صُنّفَ بحسب البنك الدولي على أنَّه من بين أسوأ ثلاث أزمات مالية عالميًا في التاريخ، أدّى إلى نشوء شبكة معقّدة من التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية لهذه الشركات، ما عرقل نموّها وازدهارها ودفعَها إلى العمل في بيئة من الأزمات المستمرّة والمتداخلة.
ومن بين هذه التحديات، برزت عوائق متعلّقة بالبنية التحتية، وصعوبة الوصول إلى التمويل، وتعقيدات في الأطر التنظيمية والإجراءات الإدارية، فضلًا عن محدودية الوصول إلى الأسواق، وكلّها عوامل تسبّبت في تأخيرات وفرضت أعباءً مالية إضافية. وترافقت هذه الأزمات مع جائحة كوفيد-19 والنزاع بين روسيا وأوكرانيا وتأثيره في أسعار المواد الغذائية[3]. لا بل أدّت اللبرلة الشديدة وقرار رفع الدعم عن مختلف الخدمات الأساسية إلى ارتفاع مفاجئ في أسعار الطاقة (الكهرباء، والبنزين، والمازوت)، ما فاقم الأعباء المالية المفروضة على الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة.
الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة والانتقال الطاقي
أظهرت دراسة حديثة أُنجِزَت بالتعاون بين المركز اللبناني للدراسات ومنتدى البحوث الاقتصادية ومعهد الشرق الأوسط، قبل بضعة أشهر من اندلاع الحرب بين لبنان وإسرائيل، أنَّ تكاليف الطاقة راوحت بين 10 في المئة و40 في المئة من إجمالي تكاليف الإنتاج لدى الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة.
اعتمدَت الدراسة منهجية متعدّدة التخصّصات وتجمع بين الأساليب الكمّية والنوعية، واستندَت إلى استبيان على مستوى الشركات شملَ 800 شركة متناهية الصّغَر وصغيرة ومتوسِّطة في جميع أنحاء لبنان، إلى جانب خمس جلسات نقاش مركّزة و24 مقابلة مع مقدّمي معلومات رئيسيّين. وهدفت الدراسة إلى فهم كيفية تكيّف هذه الشركات مع تحدّيات الانتقال الطاقي في ظلّ أزمات المناخ والاقتصاد، بالإضافة إلى مستوى مشاركة النساء والشباب في هذه العمليات الانتقالية.
بحسب البنك الدولي، أغلقت واحدة من أصل كلّ خمس شركات لبنانية أبوابها خلال الفترة الممتدّة بين 2018 و2022. ومع ذلك، أثبتَت بعض الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة في لبنان قدرتها اللافتة على التكيّف في بيئة من الأزمات المتعدّدة[4]. وقد أظهرت نتائج الدراسة أنَّ بعض هذه الشركات أصبحت أكثر اعتمادًا على ذاتها كجهات رائدة في الأعمال نتيجة التغيّرات التي فرضتها الأزمات في السوق. ونجحت الشركات الأصغر حجمًا في المناورة بشكل أفضل خلال السنوات الماضية، وقد يكون ذلك مرتبطًا بقدرتها على التكيّف والتخصُّص في مجال محدّد، وقربها من الأسواق، وقدرتها على استغلال الفرص الجديدة بمزيد من الفعالية. ولكنّ هذه النتائج تعتمد على السياق والقطاع.
تجلَّت هذه القدرة على الصمود في الاستراتيجيات المتنوّعة التي اعتمدَتها هذه الشركات للبقاء والنموّ، ولا سيّما في ما يتعلّق بتأمين احتياجاتها من الطاقة، إذ تُعتبَر الطاقة واحدة من أكبر التكاليف التشغيلية لها. وفي ظلّ رفع الدعم عن منتجات الطاقة، واستمرار التضخّم المفرط، ودولرة السوق، لجأت الشركات المتناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة (أكثر من 50٪ من الشركات التي شملها الاستبيان) إلى اعتماد الطاقة الشمسية لتقليل تكاليفها والحدّ من اعتمادها على مولّدات المازوت.
أقرَّ المشاركون في جلسات النقاش المركّزة بفعالية أنظمة الطاقة الشمسية من حيث خفض التكاليف وتحسين استقرار الإنتاج، حيث شهدت بعض الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة إلغاء فواتير الكهرباء الخاصة بها بشكل شبه تام. وراوحت مكاسبها المالية بين 750 و2,500 دولار أميركي شهريًا، مع انخفاض في تكاليف التشغيل بنسبة تصل إلى 40 في المئة. بالإضافة إلى ذلك، أفاد الاستبيان على المستوى الوطني بأنَّ حوالى 70 في المئة من الشركات أبدَت رضاها عن الاعتماد على الطاقة الشمسية، بينما أعرب 39 في المئة عن عدم اهتمامهم بتوسيع أنظمة الطاقة الحالية لديهم، وذلك بسبب القيود المتعلّقة بالمساحة أو التكاليف المرتفعة المرتبطة بهذا التوسيع.
تُظهِر هذه النتائج الجدوى الاقتصادية للطاقة المتجدّدة بالنسبة إلى الشركات، حيث أثبتَت فعاليتها في خفض التكاليف. ومع ذلك، لا يزال التمويل يُشكِّل التحدّي الرئيسي الذي تُواجِهه معظم الشركات لجهة تركيب أنظمة الطاقة المتجدّدة. وتبقى الحاجة ملحّة لتوفير دعم إضافي يُشجِّع الشركات على اعتماد التقنيات المستدامة وتدابير كفاءة الطاقة.
الشركات "المتعثّرة" مقابل الشركات "المزدهرة"
شكّل الابتكار السلاح الأمضى للشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة خلال الأزمة. فوفقًا لوزارة الاقتصاد والتجارة، سُجِّل حوالى 3,350 علامة تجارية في عام 2021 وحده. واستنادًا إلى العمل الذي قامت به منظمة "ميرسي كور" خلال الأزمة، سعى البحث للتمييز بين الشركات "المزدهرة" والشركات "المتعثّرة"، حيث حاولت الشركات المتعثّرة الابتكار، ولكنّها افتقرت إلى القدرات المُسبَقة، ورأس المال، والمعرفة التقنية اللازمة، فيما اغتنمت الشركات المزدهرة الأزمة كفرصة للنموّ وتقديم خدمات أو منتجات تزايد الطلب عليها.
وقد شهدت عدّة قطاعات تحوّلًا من هذا النوع. وبالإضافة إلى الزيادة السريعة في عدد الشركات العاملة في مجال الطاقة المتجدّدة، كان من اللافت أيضًا مراقبة قطاعَي الصناعات الزراعية الغذائية وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات. وبالرغم من أنَّ المنظّمات الدولية لعبَت دورًا مهمًّا من خلال تقديم الدعم، شهدت هذه القطاعات نموًا أسرع ووفّرت فُرَصًا جديدة نتيجة اعتبارات اجتماعية واقتصادية، ومفاهيم أعمال مبتكرة، واستراتيجيات تكيّف ساعدتها على الاستمرار (مثل تطوير منتجات وخدمات جديدة لتلبية الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيّرة). أمّا في ما يتعلّق بالشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة العاملة في قطاع الصناعات الزراعية الغذائية على وجه الخصوص، فقد أدّى الانخفاض الكبير في تكاليف التشغيل المرتبطة بتأمين الطاقة ورواتب الموظّفين، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع المستوردة (بسبب انخفاض قيمة الليرة اللبنانية)، إلى جعل الإنتاج المحلّي أكثر جاذبية للمواطنين الذين يعانون من تراجُع قوّتهم الشرائية.
ومع ذلك، فقد تلاشت غالبية هذه المكاسب المتراكمة بسبب استمرار التضخّم المفرط ودولرة السوق، ما جعل بيئة الأعمال الحالية معقّدة وغير مستدامة.
تغيُّر الاستراتيجيات
يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق حاسم في ما يتعلّق بمسار انتقاله الطاقي، وبالتالي بالدور الذي يمكن أن تلعبه الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة في هذا المستقبل. ومع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، يمكن القول إنّ القرارات السياساتية التي ستُتَّخَذ في الفترة المقبلة ستؤثّر مباشرةً في ملامح البلد خلال العقد المقبل على الأقلّ. ولا يمكن اتّخاذ هذه القرارات استنادًا إلى النهج التقليدي القائم على الإملاءات، والذي غالبًا ما يتجاهل التحدّيات التي تُواجِهها هذه الشركات.
في هذا السياق، تظهر حاجة ملحّة إلى تحويل التركيز على قطاعَي الخدمات والمال وتعزيز القطاعات الإنتاجية، مثل الصناعة والزراعة (بما في ذلك الصناعات الزراعية الغذائية) والتكنولوجيا، لكي تلعب هذه القطاعات دورًا أكبر في الاقتصاد. ويندرج دعم الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة وتمكين البيئة المحفّزة على الابتكار في هذا الإطار، حيث أكّدت دراستها مدى أهمّيتها في تحقيق انتقال نحو الطاقة النظيفة. ويجب على الوزارات وصانعي السياسات العمل جنبًا إلى جنب بدلًا من العمل بشكل منعزل عند التعامل مع مسألة الانتقال الطاقي، من خلال تطبيق نهج شامل يُدمج الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة، ويُعزّز الفُرَص التي توفّرها هذه الشركات، ويراعي الإطار الاجتماعي والاقتصادي الأوسع.
إنّ إشراك الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة كجهات شريكة فاعلة في عملية الانتقال الطاقي سيسمح للبنان بإطلاق العنان للإمكانات الابتكارية الكاملة لهذه الشركات. ولكنْ، لا يمكن تحقيق ذلك من دون تلبية الحاجة إلى آليات تمويل مبتكرة، وإطار تنظيمي مرن وغير بيروقراطي، وتوفير أسواق تنافسية. وبالإضافة إلى كلّ هذه العناصر، تشمل الخطوات الأولية الأساسية في استعادة الثقة بالقطاع المصرفي (من خلال إعادة هيكلته) وبالمؤسّسات العامة، ومكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة، ومعالجة مسألة القطاع غير الرسمي.
كذلك، ومن بين الدروس المستخلَصة من سنوات الأزمة، تبرز حاجة ملحّة إلى تعزيز الدعم المُقدَّم إلى حلول الطاقة المتجدّدة الموزَّعة التي أثبتَت فعاليتها. فقد أسهمَت مبادرات البلديات في إنشاء شبكات صغيرة هجينة، تجمع بين الطاقة الشمسية ومولّدات المازوت أو الشبكة الوطنية، في تنشيط الاقتصاد المحلّي الذي كان يعاني سابقًا بسبب الجمود الذي يسبّبه انقطاع الكهرباء.
ختامًا، أكّدت الدراسة أهمية تنمية القدرات، والتدريب، وإصدار الشهادات في بناء مجموعة واعية من الموظّفين العموميّين والجهات الفاعلة في القطاع الخاصّ، بحيث تكون قادرة على تقييم مخاطر تغيّر المناخ بشكل واقعي ومراعاة التأثيرات المرتبطة بها عند وضع أي خطط مستقبلية.
لا تزال الشركات متناهية الصّغَر والصغيرة والمتوسِّطة تلعب دورًا مهمًّا في مسار الانتقال الطاقي في لبنان، ومن الممكن أن تُشكّل الظروف الحالية فرصةً مهمّةً لتعزيز هذا الدور في تحقيق انتقال مستدام وعادل.
المراجع:
[1] فَرّان، إ.، فواز، م.، دور الشركات الصغيرة والمتوسّطة في الاقتصاد اللبناني. مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية. 2018.
[2] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. (2015). استراتيجية الشركات الصغيرة والمتوسّطة في لبنان.
[3] منظمة "ميرسي كور". (2023). تأثيرات النزاع في أوكرانيا على الأزمة الاقتصادية والإنسانية في لبنان - بعد عام من اندلاعها.
[4] منظمة "ميرسي كور". (2022). كيف يمكن للشركات الصغيرة التكيّف في ظل الأزمات المتعدّدة في لبنان؟
مارك أيوبباحث ومستشار في مجال سياسات الطاقة، طالب دكتوراه في جامعة غالواي في إيرلندا. وهو أيضاً زميلٌ مشارك في معهد عصام فارس التابع للجامعة الأمريكية في بيروت، وزميلٌ سابق غير مُقيم مختصّ في شؤون الطاقة والمناخ في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط. يتمحور عمله حول التأثير في عملية صنع السياسات من خلال البحث القائم على الأدّلّة، بتركيزٍ خاصّ على لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أحمد ديابأخصّائي في مجال الطاقة والتنمية، وفي رصيده خبرة واسعة في برامج التنمية وقطاع الطاقة. لديه خلفية في مجال الهندسة ودراسات الطاقة، ويتابع دراسته حاليّاً بهدف الحصول على شهادة في علم الاجتماع.