• المالية والموازنة
    سبتمبر 01، 2021

    مرصد الحكومة رقم 21 - تعاميم المصرف المركزي بشأن تنظيم حسابات المودعين

    • علي طه
    ما هي المشكلة المطروحة؟
    في أعقاب الثورة الشعبية التي انطلقت في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2019، أغلقت المصارف اللبنانية أبوابها خوفًا من تهافت المودعين على سحب مدخراتهم أو تحويلها إلى الخارج. ثمّ بعد أسبوع، استأنفت أعمالها مع فرض قيود على الودائع بالدولار الأميركي ووضعت سقفًا للسحوبات والتحاويل إلى الحسابات في الخارج. لم تتحرّك الدولة فورًا لتنظيم القطاع المالي ممّا دفع المصارف إلى اعتماد سياساتها الخاصّة إمّا بشكل أحادي أو عبر جمعية مصارف لبنان التي أعلنت في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 أنها ستفرض سقفًا على السحب النقدي قيمته 1000 د.أ. أسبوعيًا بالإضافة إلى تقييد التحويلات إلى الخارج.
     
    ومع فقدان الثقة بالقطاع المصرفي في لبنان في بداية الحراك الشعبي، سارع المودعون إلى سحب العملات الأجنبية - لا سيما الدولار الأميركي - من حساباتهم المصرفية (في تشرين الأول وتشرين الثاني 2019، جرى سحب حوالى 3.8 مليار دولار أميركي من المصارف اللبنانية). وبعد نهاية العام، باشرت المصارف العمل بخطوة إضافية عبر تخفيض سقف السحب النقدي إلى بضع المئات من الدولارات أسبوعيًا قبل تجميد السحوبات كليًا. منذ ذلك الحين، أصدر مصرف لبنان (المصرف المركزي في لبنان) سلسلة من التعاميم بهدف ضبط حركة رؤوس الأموال، وإبطاء الانهيار المالي والحدّ من تداعياته على مختلف القطاعات الاقتصادية وشرائح المجتمع.
     
    تعاميم مصرف لبنان لتنظيم الودائع المصرفية
    في 3 نيسان/أبريل 2020، صدر تعميم مصرف لبنان رقم 148، الذي سمح لصغار المودعين اللبنانيين، أي من كانت حساباتهم دون 5 ملايين ليرة لبنانية أو ثلاثة آلاف دولار أميركي، بإجراء السحوبات و/أو غيرها من المعاملات النقدية. كما مُنحوا فرصة تحويل مدخراتهم إلى الدولار الأميركي على "السعر الرسمي"،[1] لكن لا يمكنهم سحبها إلا بالليرة اللبنانية على "سعر السوق". كانت هذه محاولة من مصرف لبنان لإدارة الوضع النقدي في ضوء عدم إقرار قانون ضبط حركة رؤوس الأموال (كابيتال كونترول) في مجلس النواب للاستجابة للأزمة. من خلال هذا التعميم، سعى مصرف لبنان إلى تحرير حوالي 800 مليون دولار أميركي من حصة صغار المودعين.
     
    اعتبر الكثيرون أن التعميم رقم 148 غير منصف لأنه لم يترك للمودعين غير المؤهلين للاستفادة إلا الخيار المرّ المتمثّل بسحب مدخراتهم بالدولار الأميركي على السعر الرسمي، أي 1507 ل.ل.، ممّا كبّدهم خسارة كبيرة. من هنا، أصدر المصرف المركزي التعميم رقم 151 في 24 نيسان 2020، وهو ما يمكن اعتباره من أبرز قرارات مصرف لبنان منذ بداية الأزمة. بموجب التعميم، يستطيع كل صاحب وديعة بالعملة الأجنبية قيمتها أكثر من 3000 د.أ. إجراء سحب نقدي بالليرة اللبنانية على سعر 3900 ل.ل. للدولار، شرط ألا تتجاوز سقف 5 آلاف دولار شهريًا، وعند طلب العميل حصرًا. اعتبر الكثير من الخبراء الماليين أن هذا الإجراء هو عبارة عن اقتطاع مبطّن للودائع، حيث أن السحوبات تؤدي إلى خسارة أكثر من 70 في المئة من قيمتها في السوق عند إصدار التعميم.
     
    في 2 حزيران/يونيو 2021، علّق مصرف لبنان قراره على إثر نقض مجلس شورى الدولة التعميم رقم 151 بعد أن تقدّم محامون لبنانيون بطعن به قبل ثلاثة أشهر.  بالتالي، تعالج المصارف المعاملات بالدولار على سعر الصرف الرسمي (1507 ل.ل.)، ممّا يرفع نسبة اقتطاع الودائع إلى 88 في المئة، في ضوء الانهيار المتواصل والسريع لليرة. أطلق هذا الحكم موجة من الغضب والتظاهرات في البلد، ما دفع المصرف المركزي إلى العودة إلى العمل بالتعميم. وزعم مصرف لبنان أنه لم يتلقّ إشعارًا رسميًا بقرار مجلس شورى الدولة، وعليه ظلّ التعميم رقم 151 ساريًا. 
     
    في 27 آب/أغسطس 2020، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 154 الذي بموجبه يتعيّن على المصارف إجراء تقييم عادل لموجوداتها ومطلوباتها ووضع خطة تضمن الامتثال للأنظمة ذات الصلة، لا سيما المتعلّقة بالسيولة والملاءة. يفرض التعميم على المصارف حثّ العملاء، الذين قام أي منهم بتحويل ما يفوق مجموعه خمسمائة ألف دولار أميركي إلى الخارج (بعد 1 تموز 2017)، على إيداع 15 في المئة من القيمة المحوّلة في حساب "خاص" مجمّد لخمس سنوات، تعزيزًا للسيولة الدولية، لدى مراسليها في الخارج (تجدر الإشارة إلى أن هذا البند يطبّق على رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مساهمي المصارف وعلى الإدارات العليا التنفيذية للمصارف وعملاء المصارف من الأشخاص المعرّضين سياسيًا (PEPs)، على أن ترتفع قيمة الإيداع المطلوب إلى 30 في المئة). كما ينصّ التعميم على أنه على كل مصرف أن يتقدّم من مصرف لبنان للاستحصال على موافقته على إعادة تكوين رأسماله و/أو زيادته وفقًا للحاجة وذلك خلال الربع الأول من العام 2021. ويجب على المصارف كذلك إتاحة الإمكانية لمودعيها بتحويل ودائعهم لديها إلى أسهم في رأسمالها أو إلى سندات دين دائمة قابلة للتداول وللاسترداد يمكن أن تعطي الحق لحامليها بممارسة حق الأفضلية بالاكتتاب بزيادة رأسمال المصرف في المستقبل.[2]
      
    وفي القرار الأحدث وربما الأكثر جدلًا الذي أصدره مصرف لبنان، يضع التعميم رقم 158 (8 حزيران/يونيو 2021) إجراءات استثنائية لتسديد تدريجي للودائع بالعملات الأجنبية. ويسعى التعميم إلى التعويض جزئيًا للمودعين عن ودائعهم بالدولار عبر السماح لهم بسحب 800 د.أ. شهريًا: مبلغ 400 د.أ. يدفع نقدًا و400 د.أ. يدفع بالعملة الوطنية على أساس سعر 12000 ل.ل الذي حدده مصرف لبنان (ويُؤمّن مبلغ 400 د.أ. نقدًا بالتساوي بين مصرف لبنان والمصارف). ينطبق هذا التعميم على جميع الحسابات بالعملات الأجنبية التي فُتحت قبل 31 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ويشمل المدّخرات قبل هذا التاريخ. بالإضافة إلى ذلك، يضع سقفًا على كمية الأموال التي يمكن سحبها بموجب أحكامه وهو 50 ألف دولار أميركي، وينصّ على أنّ المجموع السنوي للسحوبات النقدية بالدولار الأميركي في كافة المصارف يجب ألا يتجاوز قيمة 4800 د.أ. لكل مودع.
     
    دخل التعميم رقم 158 حيز التنفيذ في 1 تموز/يوليو، لكن اعترضه الكثير من التشكيك والتردد من قبل المودعين نظرًا إلى عدم الوضوح في الكثير من بنوده.[3] بالإضافة إلى ذلك، أعرب الكثير من الخبراء الاقتصاديين والماليين عن مخاوف بشأن الأثر السلبي لهذا القرار على التضخم والاقتصاد بشكل عام، لا سيما أنّ قيمة الأربعمائة دولار بالليرة اللبنانية ستزيد الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية بحوالي 27 تريليون ليرة لبنانية على مدى سنة واحدة، ممّا يؤدي إلى تعزيز التضخم وانهيار العملة اللبنانية مقابل الدولار.

    الطلاب في الخارج 
    عانت أسر الطلاب في الخارج الأمرين مع انهيار الاقتصاد والقيود الصارمة على السحوبات والتحاويل بالدولار الأميركي. إذ اضطرت إلى دفع الرسوم والتكاليف بالعملة الأجنبية. بعيد العمل بالقيود على التحاويل بالعملة الأجنبية إلى الخارج، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 153 (في 19 آب/أغسطس 2020) الذي يجيز للمودعين إجراء تحويل أقصاه 10000 د.أ، - أو ما يعادله في العملات الأخرى - إلى الطلاب في الخارج، شرط أن يكون هؤلاء مسجلين في مؤسسة تعليمية ويعيشون في الخارج منذ قبل نهاية العام 2019.
     
    لاقى هذا القرار الكثير من الانتقادات حول إقصاء من تسجلوا بعد العام 2019. وعلى إثر الضغط الشعبي المتزايد، أقرّ مجلس النواب القانون رقم 193 المتعلّق بالدولار الطالبي الذي يجبر المصارف على إجراء تحويل مالي لا تتجاوز قيمته عشرة آلاف دولار أميركي لمرة واحدة لكل طالب من الطلاب اللبنانيين الجامعيين المسجلين في الجامعات أو المعاهد التقنية العليا خارج لبنان قبل العام 2020-2021. وقّع رئيس الجمهورية على القانون الذي دخل حيز التنفيذ في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2020. وبناء على هذا القانون، أصدر المصرف المركزي التعميم الأساسي رقم 155 (في 9 كانون الأول/ديسمبر 2020) مطالبًا المصارف بمعالجة الطلبات ذات الأهلية من ذوي الطلاب اللبنانيين، وتأمين التحاويل من حساباتها لدى مراسليها في الخارج.
     
    بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن على المصارف بموجب التعميم الحرص على عدم إساءة استعمال هذا الحقّ عبر إنشاء مركزية معلومات لدى جمعية مصارف لبنان يعود لها حصريًا مسؤولية التحقق من عدم الازدواجية/التكرار في طلبات التحويل. كذلك، يجب على الراغبين في الاستفادة من أحكام التعميم رفع السرية المصرفية. وتزعم جمعية مصارف لبنان أن هذه الترتيبات سمحت لأولياء الأمور بتحويل 240 مليون دولار أميركي إلى حوالي 30 ألف طالب لبناني في الخارج خلال السنتين الأكاديميتين 2019-2020 و2020-2021.
     
     
    لماذا هذا مهم؟
    خلّف انهيار القطاع المصرفي أضرارًا على 1451829 مودعًا يملكون 107.28 مليارات دولار أميركي في المصارف اللبنانية في نهاية آذار/مارس 2021. وقد كرّس التقاعس الحكومي والتشريعي المصرف المركزي آمرًا ناهيًا في السياسات المالية والنقدية التي عجز عن إنفاذها بصرامة. وعليه، وفي ظلّ غياب خطة إصلاحية شاملة، لا ترتقي هذه التدابير إلى المستوى المطلوب للاستجابة للوضع المالي والاقتصادي الملحّ، حتّى أنّ خبراء كثر يعتبرون أنّ كان لها أثراً عكسياً أدّى إلى تآكل ما تبقّى من ثقة السوق في القطاع المصرفي اللبناني.
     
     
    الخلفية
    بعد عقود من سوء الإدارة والفساد الممنهج، يعيش لبنان أسوأ أزمة اقتصادية عرفها في تاريخه. وأتى عجز الحكومة اللبنانية عن اعتماد الإصلاحات الضرورية ليصبّ الزيت على نار الأزمة التي تستعرّ في القطاعات الاقتصادية كافة وتهدّد عمل الأجهزة الحكومية الحيوية. في العام 2019، تراجع الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بنسبة 6.7 في المئة وسجّل انكماشًا إضافيًا في العام 2020 قدره 20.3 في المئة! خلال العامين الماضيين، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80 في المئة من قيمتها، وتجاوز التضخّم نسبة 100 في المئة. وعليه، انغلق القطاع المصرفي تمامًا وفرض قيودًا صارمة على السحوبات بالعملات الأجنبية. وللمرة الأولى في تاريخ لبنان، تخلّفت الدولة عن سداد سندات يورو بوند قدرها 1.2 مليار دولار أميركي في موعدها في 9 آذار/مارس 2020.
     
    المراجع
    جمعية مصارف لبنان. (15 نيسان/أبريل 2021). بيان صحافي حول تحويلات المصارف إلى الطلاب اللبنانيين في الخارج.
    مصرف لبنان. القوانين والتعاميم - التعاميم الأساسية. 10 آب/أغسطس 2020:
    تعميم مصرف لبنان حول السداد التدريجي للودائع بالعملة الأجنبية. 11 حزيران/يونيو 2021. مكتب ملكي للمحاماة.
    مصرف لبنان يتراجع عن تعليق العمل بقرير جواز السحوبات النقدية للودائع بالدولار على سعر 3900 ل.ل. 3 حزيران/يونيو 2021. صحيفة لوريان لوجور - الطبعة الإنكليزية. 
    سارة دادوش وعاسر خطاب. 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. مع فقدان الدولارات في لبنان، تردّ الصرافات الآلية البطاقات المصرفية، وحالة من الهلع بين الناس. صحيفة واشنطن بوست.
    تعميم مصرف لبنان حول منصة "صيرفة". 8 حزيران/يونيو 2021. مكتب ملكي للمحاماة. 
    البنك الدولي. 2021. مرصد الاقتصاد اللبناني - لبنان يغرق نحو إحدى أشد الأزمات العالمية حدّة، وسط تقاعس متعمّد. بيروت: البنك الدولي.
    مودعو المصارف بالدولار كم عددهم؟ ما قيمة ودائعهم؟. 5 تموز/يوليو 2021. الأخبار.
     
    [1]حدد مصرف لبنان سعر صرف الليرة اللبنانية على 1507 ل.ل. للدولار الأميركي، وقد جرى استخدامهما بشكل متبادل حتى أتشرين الأول/كتوبر 2019.
    [2] إلا أنّ هذه الأحكام ترتبط بالشروط التالية:

     إعلام الشخص المعني بتفاصيل هذه العمليات وشرحها بشكل واضح ووافٍ.

     إبلاغ العملاء الذين ينوون تحويل ودائعهم إلى أسهم بتقرير ميوّم لقيمة الأسهم (على أن يوافق عليه المجلس المركزي لمصرف لبنان).

     إدراج كامل أسهم المصرف في البورصة في بيروت.

     فصل رئاسة مجلس الإدارة عن إدارة المصرف المعني وفقًا لمفهوم المادة 153 من قانون التجارة.


    [3] وضع كل مصرف عقدًا وقواعد خاصة به، نظرًا إلى عدم وجود نموذج عقد معتمد من مصرف لبنان لضمان الإنصاف بين جميع المودعين.
    علي طه

    باحث سياسي في المركز اللبناني للدراسات. تتركز أبحاثه في مجالات السياسة العامة والحوكمة والمشاركة السياسية والطاقة. وهو يشارك أيضًا في كتابة مرصد الحكومة، وتنظيم سلسلة من حلقات الحوار عبر الإنترنت، بالإضافة إلى الإشراف على متتبع التشريعات، وهي أداة تفاعلية عبر الإنترنت تتيح للمستخدمين استكشاف بيانات مختلفة حول أجندة السياسات والتشريعات. قبل عمله في المركز اللبناني للدراسات، عمل علي كمدير للبرامج في منظمة وفود من أجل الحوار، ولمدة ثلاث سنوات شارك في تسهيل البحث في مناطق الصراع والبلدان المضطربة. حاصل على ماجستير في العلاقات الدولية من جامعة أمستردام في تخصص سياسات الطاقة، وبكالوريوس في العلوم السياسية / الشؤون الدولية من الجامعة اللبنانية الأمريكية.

اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية