• حوكمة
    نوفمبر 16، 2023

    منظمات المجتمع المدني في لبنان: التغلّب على التحدّيات وإعادة بناء الثقة

    • كريستل بركات
    منظمات المجتمع المدني في لبنان: التغلّب على التحدّيات وإعادة بناء الثقة

    أُعِدَّ هذا المقال كجزء من التعاون بين "المركز اللبناني للدراسات" و"مركز الابتكار للتغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، في إطار الهدف المتمثّل في حماية المساحات المدنية من خلال الابتكار في منهجيات الأبحاث وبناء القدرات.

     

    اعتادت منظّمات المجتمع المدني في لبنان العمل في ظروف غير مستقرّة ومليئة بالتقلّبات المستمرّة. ففي السنوات القليلة الماضية، كانَ عليها أن تُواجِه الأزمات الاقتصادية المتداخلة وتداعيات انفجار مرفأ بيروت وجائحة كوفيد-19 ومشكلة اللاجئين، وأخيرًا التدهور السريع في المشهد الأمني في المنطقة.

     

    أدّت هذه الأحداث مُجتمِعةً إلى تفاقم التحدّيات التي تواجهها منظمات المجتمع المدني اللبنانية، ولا سيّما لناحية قدرتها على تلبية الاحتياجات المتزايدة في البلد بميزانيتها المحدودة. وتزداد الأمور تعقيدًا بسبب التصورات العامة السلبية حيال منظمات المجتمع المدني، ما زاد من صعوبة عمل هذه المنظمات في العديد من المناطق اللبنانية.

     

    في إطار الهدف الذي يسعى له "مركز الابتكار للتغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" والمتمثّل بحماية المساحات المدنية بواسطة الأبحاث المبتكرة والنُّهُج المرتكِزة على بناء القدرات، لاحظَ المركز اللبناني للدراسات، بالشراكة مع مركز الابتكار للتغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اشتداد الحملة التي تُساق ضد المجتمع المدني في لبنان، من جهات متعددة، لزعزعة ثقة الناس بمنظمات المجتمع المدني.

     

    يهدف مشروع "تحسين النظرة العامة حيال منظمات المجتمع المدني في لبنان" إلى تمكين هذه المنظمات من خلال تحسين فهمها وإدراكها لدوافع حملات التضليل والتشهير، وتأثُّر الناس بها. يركّز المشروع أيضًا على بناء قدرات منظمات المجتمع المدني باستخدام أدوات الاتصال التقليدية والحديثة لتسليط الضوء بنحو أفضل على إنجازاتها والرد على المعلومات المغلوطة والهجمات السلبية. ويستند هذا المشروع إلى نتائج حملة "كلنا مع بعض نقدر" التي أطلقها المركز في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022.

     

    في سياق هذا المشروع، أجرى المركز اللبناني للدراسات دراسةً عن "تعزيز قدرات منظمات المجتمع المدني"، حيث أُجرِيَت مقابلات مع 30 ممثّلًا عن منظمات مختلفة من المجتمع المدني في لبنان. وحين سُئل ممثّلو المنظمات عن تصورات الناس لأدوارهم، تحدّثوا عن تزايد الضغط لتقديم المساعدة والخدمات، وأجمعوا على أنّ تصورات الناس حيال منظمات المجتمع المدني مغلوطة وغير دقيقة. ومن هذه التصورات المغلوطة، الاعتقاد بأنّ هذه المنظّمات تتلقى كميات طائلة من الأموال، لكنّها لا تساعد بما يكفي، أو لا تستثمر بكامل ميزانيّتها. وأضافت منظمات المجتمع المدني أنّ الكثيرين يُخطئون باتّهامهم بأنّهم يعملون وفق "أجنداتهم" الخاصّة، أو بأنّهم أدوات لمموّلين أجانب.

     

    مع ذلك، أشارت نتائج الاستبيان الذي أجراه المركز اللبناني للدراسات أخيرًا على 1200 مشارك إلى الأدوار الإيجابية التي تؤديها منظمات المجتمع المدني في لبنان، بحسب آراء المُستطلَعين. وبالفعل، فإنّ حوالى 70% من المُستطلَعين "يوافقون نسبيًّا" أو "يوافقون تمامًا" على أنّ هذه المنظمات يجب أن تُراقِب وتُتابع عمل المؤسسات والجهات العامة.

     

    بالإضافة إلى ذلك، رأى حوالى 88% من المُستطلَعين أنّ منظمات المجتمع المدني ينبغي أن تدافع عن الحقوق الأساسية، مثل حقوق الإنسان، والحريات المدنية، والحق في المساءلة. واعتبرَ 92% منهم أنَّ على هذه المنظمات أن توفّر المساعدة والمعونة، وخصوصًا للفئات المستضعفة. وبشكل عام، يريد 77% من المُستطلَعين أن تقوم منظمات المجتمع المدني بكل الأدوار المذكورة أعلاه. وذكرَ أكثر من 70% منهم أنّهم "يثقون نسبيًّا" أو "يثقون" بمساهمة منظمات المجتمع المدني المحلية في إعادة الإعمار والاستجابة الإنسانية بعد انفجار مرفأ بيروت وفي تقديم المساعدة والمعونة خلال الأزمة المالية والاقتصادية.

     

    انطلاقًا من ذلك، يتناول هذا المقال أبرز التحديات التي تواجهها منظمات المجتمع المدني في لبنان، لناحية تلبيتها لاحتياجات الأفراد وتوقّعاتهم، ويقترح توصيات عملية لاجتياز التحديات وتعزيز الثقة.

     

    التحدّيات الراهنة التي تمرّ بها منظمات المجتمع المدني في لبنان

     

    عدم الاستقرار ونقص التمويل

    في ظلّ الحالة الاقتصادية والأمنية غير المستقرة خلال السنوات القليلة الماضية، مصحوبةً بتصاعد التوتّر في العديد من المناطق اللبنانية، تَعذَّرَ تنفيذ بعض المشاريع بشكل جزئيّ أو كلّي، ما أدّى إلى فقدان التأثير الإيجابي المحتمل، بالإضافة إلى خسارة تمويل منظمات المجتمع المدني التي تواجه تزايد الاحتياجات مقابل تضاؤل الميزانيات المتاحة.

     

    الأزمة المصرفية والصعوبات التي تُرافقها

    منذ بداية الأزمة الاقتصادية والمصرفية في عام 2019، تواجه منظمات المجتمع المدني اللبنانية صعوبات في الوصول إلى أموالها في المصارف في لبنان. وقد سبّب ذلك العديد من المشاكل الإدارية، مؤدّيًا إلى التأخير في إيصال المساعدات وتنفيذ المشاريع وتلبية شروط الجهات المانحة.

    في الواقع، عَبَّرَ ممثلو منظّمات المجتمع المدني الذين جرت مقابلتهم في إطار دراسة المركز اللبناني للدراسات بصراحة عن معاناة المنظمات لأخذ المواعيد مع موظّفي المصارف لمناقشة شؤونهم المصرفية. وأشاروا أيضًا إلى صعوبة إصدار الفواتير وصرف الأموال لتسديد تكاليف الخدمات المقدّمة وتنفيذ البرامج، ولا سيّما لناحية المُهَل الزمنية المحدّدة المتّفق عليها مسبقًا مع الجهات المانحة. ونتيجة تقلُّب أسعار الصرف، بات من الأصعب على منظمات المجتمع المدني أن تحصل على تسعيرات ثابتة مقابل الخدمات، ما زادَ من أزمتها أمام الجهات المانحة.

     

    هجرة الأدمغة وارتفاع نسبة الاستقالات

    تأثّرت منظمات المجتمع المدني في لبنان أيضًا بهجرة الأدمغة وارتفاع نسبة استقالة الموظفين. فالموظّفون الأكفياء إمّا يُهاجرون إلى الخارج بحثًا عن فرص عمل أفضل، وإمّا ينتقلون للعمل في المنظمات غير الحكومية الدولية. وتفاقمَ هذا الوضع نتيجة تقلبات سعر صرف العملة وعجز العديد من منظمات المجتمع المدني عن دفع الرواتب بالدولار.

    ونظرًا لمغادرة الموظّفين باستمرار، تدخل المنظمات مرارًا وتكرارًا في دوامة آليات التوظيف، التي تشمل تعيين موظفين جدد إن استطاعت المنظمة القيام بذلك، أو إعادة تدريب الموظفين الحاليين لتكليفهم بأدوار أو مسؤوليات إضافية. وقد انعكسَ ذلك أيضًا في ازدياد الاعتماد على المتطوّعين. وتحدّثَ جميع ممثّلي المنظمات بإيجابية عن المتطوعين، لكنّهم يتفهّمون في الوقت نفسه تراجع قدرة الأفراد على التطوّع في الوضع الراهن، وعبّروا عن رغبتهم في مكافأتهم، ولو بمبالغ رمزية.

     

    تحدّيات التنسيق مع المؤسسات الرسمية

    في ظل الإضرابات، والإغلاق الناتج من الأزمة الاقتصادية، والاحتجاجات، اضطرّ العديد من منظمات المجتمع المدني إلى مواجهة المزيد من التحديات المرتبطة بالتنسيق مع المؤسسات الرسمية. وأدّى ذلك إلى تأخّر المنظمات في تسديد الضرائب ومستحقات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى الاضطرار إلى دفع الغرامات بسبب هذا التأخير الخارج عن سيطرتها. وأشارت عدّة منظمات إلى الصعوبات التي تواجهها في إدارة الملفات والقضايا، وخصوصًا في ظل الاحتجاجات وتوقُّف العمل على المستوى القضائي. وازداد الأمر سوءًا بفعل عجز الدولة عن إبقاء الخطوط الساخنة الوطنية قيد العمل بشكل مستمرّ، وعجز قوى الأمن الداخلي عن تنفيذ الأحكام القضائية بسبب ارتفاع تكاليف النقل.

     

    التحديات في تنفيذ البرامج

    اتّفقت جميع منظمات المجتمع المدني على وجود تحديات مختلفة لناحية تنفيذ البرامج، سواء تلك التي تُنفَّذ على الأرض، أو عبر الإنترنت. بالنسبة إلى البرامج التي تُنفَّذ على الأرض، أشاروا إلى صعوبة التنفيذ نتيجة ارتفاع تكاليف النقل على الجهات المعنية. وأمّا بالنسبة إلى البرامج عبر الإنترنت، فقد ذكروا عدّة عقبات، منها انقطاع الإنترنت، ومشكلة نقص المحروقات التي تؤثر في تَوافُر الكهرباء.

     

    التضليل والمعلومات المغلوطة

    هناك العديد من منظمات المجتمع المدني المعرّضة لحملات التضليل أو المعلومات المغلوطة، أو التي واجهت ذلك بالفعل. وتأتي هذه المشكلة في صميم مشروع مركز الابتكار للتغيير والمركز اللبناني للدراسات. تجلّت هذه الحملات في التعليقات السلبية القاسية أو التهديدات التي تطاول بعض المنظمات والعاملين فيها، سواء في الحياة الواقعية، أو عبر الإنترنت، وذلك نتيجة نقص الوعي العام بعمل منظمات المجتمع المدني، وتحديدًا كيفية حصولها على التمويل، وكيفية صرف الأموال، وعجز الجمهور عن تمييز الأخبار الكاذبة أو المعلومات غير الموثوقة.

     

    التوصيات

     

    إطلاق حوار شفاف مع الجهات المانحة

    قد تستفيد العديد من المنظّمات من حوارٍ شفاف بينها وبين الجهات المانحة بشأن المعوّقات التي يفرضها الوضع الراهن في لبنان، والتي تؤثر بقدرة المنظمات على تلبية متطلبات البرامج. وقد يساعدها هذا الحوار على الوصول إلى حلول يتّفق عليها الطرفان لتخطي هذه العقبات أو إعادة صياغة المتطلبات.

     

    تنويع المخاطر المصرفية

    نظرًا لعدم إحراز أي تقدّم ملموس في عملية الإصلاح المصرفي، تحدّث عدة ممثلين من منظمات المجتمع المدني عن فوائد تنويع معاملاتهم المصرفية لتجنّب تكرار احتجاز أموالهم في مصرف واحد. وأشارَ آخرون إلى ضرورة فتح حساب في بلد أجنبي أكثر استقرارًا. وأخيرًا، ذكر العديد منهم الإجراءات النقدية الأكثر تعقيدًا التي اضطرّوا إلى اتباعها بسبب عراقيل الخدمات المصرفية، وتحدّثوا عن استكشاف أساليب جديدة لتقليل اعتمادهم على السحوبات النقدية.

     

    تعيين مسؤول أو ممثّل للتنسيق بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات العامة

    إنّ تعيين مسؤول اتصال لمتابعة أمور منظمات المجتمع المدني في المؤسسات الرسمية سيعود بالنفع على هذه المنظمات. يمكن اختيار الممثّل من المجتمع المدني للمساعدة على بناء الثقة بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات العامة، والحفاظ على الاتصال المنتظم بين الطرفين، وتسهيل عقد اجتماعات مشتركة للبحث في المسائل ذات الأهمية بنحو مستمر. وقد نجحت هذه التجربة في السابق مع وزارة الداخلية والبلديات خلال فترة الانتخابات.

     

    مكافأة المتطوعين وتقاسم تكاليف الموظفين

    لتشجيع العمل التطوّعي ومعالجة مشكلة ارتفاع نسبة استقالة الموظفين، تستطيع منظمات المجتمع المدني الدخول في شراكة مع المنظمات غير الحكومية الدولية بهدف دفع مبلغ رمزي للمتطوعين مقابل جهودهم أو تقاسم تكاليف الموظفين.

     

    تأمين مساحات عمل مشتركة لتخفيض تكاليف النقل

    لمعالجة مشكلة ارتفاع تكاليف النقل، تستطيع منظمات المجتمع المدني تزويد المراكز المجتمعية بمعدّات الاتصال ومصادر الطاقة المتجددة لتشجيع زيادة المشاركة في مختلف الأنشطة في جميع أنحاء لبنان. ينبغي تنسيق هذا الأمر مع البلديات والمجموعات أو الأندية المحلية.

     

    الحدّ من التضليل والمعلومات المغلوطة

    يمكن معالجة هذه المشكلة من خلال طريقتَيْن: توعية عامة الناس على عمل منظمات المجتمع المدني وكيفية حصولها على التمويل وتنفيذ المشاريع، وآلية مراقبة الأموال وتقييمها والتدقيق فيها؛ وتدريب موظّفي منظمات المجتمع المدني وإرشاد الجمهور لمعرفة كيفية التمييز بين الأخبار الكاذبة والمعلومات الموثوقة، وبالتالي تخفيف حدّة الحملات المنظّمة التي تستهدف منظمات المجتمع المدني وعملها.

     

    التخطيط للمرونة والقدرة على الصمود

    لا بدّ من وضع خطط المرونة والطوارئ التي تأخذ في الحسبان السيناريوهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المختلفة، مع آليات لتقييم المخاطر، واستراتيجيات لمواجهة التحديات.

     

    الخلاصة

     

    منذ عام 2019، تُحاوِل منظمات المجتمع المدني في لبنان أن تصمد في وجه الأزمات المتشعبة التي يشهدها البلد. وبالفعل، واجهت هذه المنظمات تحدياتٍ متزايدة، واضطرّت إلى الاستجابة للطلبات المتزايدة في مختلف أنحاء لبنان. وفي أثناء قيامها بذلك، استُنزِفَت مواردها الشحيحة أساسًا لمساعدة عدد متزايد من الأفراد المستضعفين، وهي تتعرّض في الوقت نفسه لاتّهامات بالتقصير وعدم بذل الجهود الكافية، أو العمل وفق "أجنداتها" الخاصة.

     

    تأتي هذه الاتهامات الباطلة من حملات التضليل والمعلومات المغلوطة، ما يؤكّد ضرورة دخول منظمات المجتمع المدني في حوارٍ شفاف ومباشر مع المعنيين والمستفيدين لتوضيح عملها وميزانيتها وواقعها والحدود التي تتقيّد بها.

     

    وبذلك، تستطيع منظمات المجتمع المدني تصحيح التصوّرات العامة الخاطئة، وزيادة ثقة الناس بها. ومن شأن زيادة التواصل بين منظمات المجتمع المدني، وبينها وبين الجهات الفاعلة الأخرى، بما في ذلك القطاع العام والقطاع الخاص والإعلام والشباب والجهات المانحة، أن تساعد في تبديد هذه الأفكار المضللة والمغلوطة، وأن تفضي إلى جهود تعاونية تتمحور حول زيادة الثقة العامة بمنظمات المجتمع المدني.

    كريستل بركات

    باحثة في المركز اللبناني للدراسات. تخرّجت مؤخرًّا من برنامج فولبرايت للطلبة الأجانب في لبنان من جامعة نورث كارولينا في غرينسبورو، وهي حائزة على درجة ماجستير في دراسات السلام والنزاعات بتركيزٍ خاصّ على تنمية السلام الدولي. نالت إجازتها في العلوم السياسية والشؤون الدولية بدرجة امتياز عالية من الجامعة اللبنانية الأمريكية. وتشمل مجالات اهتمامها تحليل النزاعات وحلها ونزع السلاح، والعولمة، ودراسات الهجرة واللاجئين، ودراسات المرأة والنوع الاجتماعي.

اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية