• شؤون اجتماعية
    ديسمبر 18، 2024

    لبنان: التعليم في حالات الطوارئ بين الارتجال والفرص الضائعة

    • كارلوس نفّاع
    لبنان: التعليم في حالات الطوارئ بين الارتجال والفرص الضائعة

    في إطار جهود المناصرة التي يبذلها المركز اللبناني للدراسات في سبيل تحقيق تعافٍ مستدام من انفجار مرفأ بيروت، يكون محوره ووجهته الإنسان وكرامة عيشه. وتماشيًا مع مساعيه الرامية إلى تعزيز العدالة الاجتماعية المُنصِفة والشاملة للجميع، وبناء الثقة بين الأفراد والكيانات الجمعية والحكومة اللبنانية، أقام المركز شراكة مع منظّمة الشفافية الدولية وفرعها الوطني، أي منظمة الشفافية الدولية لبنان- لا فساد، لإصدار "مرصد الإصلاح". ترتبط المواضيع التي يغطيها المرصد بمجالات الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، ويندرج نشره في إطار مشروع بناء النزاهة والمساءلة الوطنية في لبنان ("بناء") المموّل من الاتحاد الأوروبي. الآراء الواردة فيه لا تعكس بالضرورة وجهة نظر الجهة المانحة.

     

     القضية المطروحة

    يواجه النظام التربوي اللبناني أزمات عصفت بشقيه الرسمي والخاص، وأتت تداعياتها على أجيال عديدة، دون أن تُتخذ منها بعض الدروس والعِبر أو تنتج أطرًا وآليات خاصة لإدارة الأزمات في التربية أو حتى تكون فرصة لإصدار قوانين للاصلاح وتطوير القطاع التربوي، بل تحولت إلى أزمات مزمنة متكررة . فمن أزمة تعليم الأطفال اللاجئين السوريين التي بدأت سنة 2011، إلى أزمة الإقفال الشامل للقطاع التربوي بسبب وباء كورونا سنة 2020، إلى انهيار قيمة رواتب المعلمين في القطاعين الرسمي والخاص، إلى الصدمات النفسية التي واجهها الأطفال وأهلهم إثر تفجير مرفأ بيروت دون أن تتخذ الجهات التربوية الإجراءات الفاعلة، وإلى إقفال المدارس في القرى الحدودية الجنوبية إثر اشتعال الحرب بين حزب الله وإسرائيل في 8 تشرين الأول 2023 ، وصولًا إلى إقفال المدارس الرسمية كافة بسبب احتضانها العائلات اللبنانية الهاربة من جحيم هذه الحرب والنازحة من الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. ما أدى إلى حرمان ما يقارب 400,000 تلميذ لبناني، و110,000 تلميذ سوري، و 35,000 تلميذ فلسطيني، و90,000 طالب في التعليم العالي. إضافة إلى أنّ أكثر من 45,000 معلّم لم يعودوا قادرين على القيام بمهامهم. هذا من دون أن نغفل عن أنّ 50 بالمئة من طلاب الجامعة اللبنانية قد نزحوا، وأُغلقت العديد من الجامعات الخاصة التي تضررت بسبب القصف، ما أثر على توقف دراسة 52,000 طالب. تشير الإحصاءات أيضًا إلى أنّ 600 مدرسة حكومية وخاصة، 60 مؤسسة تعليم تقني، و19 مبنى جامعي استخدمت كملاجئ للعائلات النازحة حتى  وقف اطلاق النار، من دون توفر كافٍ للمياه الصالحة للشرب والكهرباء أو الرعاية الطبية. ومن اللافت أنّه رغم حالة الطوارئ، بقيت المساعدات الدولية غير كافية لمواجهة الحاجات الإنسانية والتعليمية الهائلة (الجمهورية).

     

    الإطار القانوني اللبناني للتعليم في حالات الطوارئ

    يخضع التعليم في حالات الطوارئ في لبنان لمجموعة من القوانين الوطنية التي لا تعالج مباشرة التعليم في ظل الأزمات، إنّما ترتكز على نصوص قانونية عامة مثل الحق في التعلّم للجميع. كما ويلتزم لبنان باتفاقيات دولية عدة، أهمها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة 26 التي توفر إطارًا قانونيًا لحماية حق التعليم في الأزمات مكرسة الحقّ في التعليم على أنّه من بين حقوق الإنسان الأساسيّة. ومع ذلك، فإنّ الإطار الأكثر أهميّة هو اتفاقيّة الأمم المتّحدة لحقوق الطّفل الموقعة سنة 1989 لأنّها تغطّي النازحين، واللّاجئين، وسبل الحمايّة[1]. وفي حين أنّ المادّة 39 تؤكّد على أهميّة الدّعم النفسيّ والاجتماعيّ للأطفال المتضرّرين من النزاعات، تؤمّن هذه الاتفاقيّات والنّصوص القانونيّة مجتمعة الحقّ في التّعليم في زمن السّلام كما في زمن الصّراعات المسلّحة والأزمات، وتتّخذ الطّابع الدّوليّ خاصّة وأنّ أغلب البلدان صدّقت، على الأقلّ، على إحدى هذه الاتفاقيّات الدوليّة المذكورة أعلاه، ما أعطى صانعي السياسات الأدوات والأطر القانونيّة لتوفير الموارد اللّازمة لتقديم التّعليم في حالات الأزمات الطّارئة. كما حدّدت أيضًا المسؤوليّة الأساسيّة عَنْ ضمان الحقّ في التّعليم على الحكومات الوطنيّة[2]. وقد أشارت المادّة 23 من اتّفاقيّة جنيف الرّابعة لعام 1949، والمادّة 70 من البروتوكول الإضافيّ الأوّل، والمادّة 18 من البروتوكول الإضافيّ الثّاني الموقّعة عام 1977،  بوضوح إلى الحقّ في المساعدة الإنسانيّة. جميع هذه المواد القانونيّة تغطّي هذا الحقّ وتُلزم أطراف النزاعات المسلّحة الدوليّة وغير الدوليّة بتقديم المساعدة الإنسانيّة أو السّماح بوصولها إلى السكّان. تؤكّد أيضًا إحدى الجمعيّات العامّة للأمم المتحدة  (UNGA) أنّ الالتزام الرّئيسيّ يقع على عاتق الحكومات الوطنيّة. ومع ذلك، تشجّع على دعمها من قِبَل المجتمع الدّوليّ من أجل إعمال الحقّ في التّعليم لكلّ الأطفال من دون أيّ شكل من أشكال التّمييز[3]. لكن رغم هذا ورغم وجود هذه الاتفاقيّات والأطر القانونيّة، إلّا أنّه لا يتمّ احترام حقّ التّعليم في حالات الطّوارئ في الكثير من الدول، ومنها لبنان، تحت حجج ضعف الموارد البشريّة والمادّيّة.

     

    إضافة إلى هذه الاتفاقيّات والأطر القانونيّة، فقد التزم لبنان سنة 2014 بمعايير التّعليم في حالات الطّوارئ التي أقرتها الشّبكة المشتركة لوكالات التّعليم في حالات الطّوارئ (INEE) –(Inter-agency Network for Education in Emergencies)  والتي تعرّف التّعليم في حالات الطّوارئ على أنّه المنقذ لحياة النازحين أثناء الأزمات الطّارئة.  إذ إنّه يمكن إنقاذ الأرواح  من خلال الحماية ضدّ الاستغلال، ونشر المعرفة حول قضايا مثل التّوعية إلى خطر الألغام الأرضيّة وأنواعها بهدف تجنّبها، أو نشر الثقافة الصّحّيّة للحدّ من انتشار الأمراض المعديّة. وبالتّالي يعتبر التّعليم على أنّه بمثابة "أداة نجاة" للمحافظة على الحياة من خلال خلق الاستقرار والأمل في المستقبل. كما أنّه يساعد على الشّفاء النّفسيّ من الآلام النّاتجة عَنْ الصّدمات، ويسهم في بناء المهارات، ودعم جهود حلّ النزاعات وبناء السّلام[4].

     

    تستند هذه المعايير إلى الأطر القانونيّة الدوليّة، وتؤكّد الالتزام بالحقّ في التّعليم للجميع، أي الأطفال والشّباب والكبار، في بيئة آمنة وبجودة عاليّة بغضّ النّظر عَنْ أوضاعهم. تُستخدم هذه المعايير اليوم في 110 دول حول العالم كأداة أساسيّة في التّعليم في حالات الطّوارئ. وتُعتمد هذه المعايير في تصميم السياسات وبرامج التّعليم في حالات الطّوارئ وتنفيذها ومراقبتها وتقييمها.

     

    تتكوّن معايير الحدّ الأدنى للتّعليم في حالات الطّوارئ بحسب (INEE) من نطاقات خمسة أساسيّة:

     

    النّطاق الأوّل: المعايير الأساسيّة، المبنيّة على التّشاركيّة الاجتماعيّة.

    النّطاق الثّاني: إمكانيّة الحصول على التعليم والبيئة التعليميّة.

    النّطاق الثّالث: التّدريس والتعلّم.

    النّطاق الرّابع: المعلّمون وسائر العاملين في التعليم.

    النّطاق الخامس: سياسات التعليم.

     

     إجراءات  وزارة التربية اللبنانية والتعليم العالي

    تركزت إجراءات وزارة التربية اللبنانية بشكل أساسي على اعتماد التعليم عن بُعد في المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية، بينما تُرك للمدارس والجامعات الخاصة تحديد خياراتها بالتنسيق مع لجان الأهل، سواء عبر التعليم الحضوري أو عن بُعد.

     

    حينها، لم تُظهر وزارة التربية اللبنانية استعدادات واضحة لبدء التعليم عن بُعد بشكل فعّال في ظل أزمة النزوح والحرب. ورغم قرارها بتبني التعليم عن بُعد كحلٍ مؤقت للمدارس الرسمية التي أصبحت مأوًى للنازحين حيث تمّ تحويل حوالي 600 مدرسة رسمية ومهنية وعدد من مباني الجامعة اللبنانية إلى مراكز إيواء للنازحين، إلا أنّ التحضيرات اللوجستية اللازمة لتطبيق هذا القرار بشكلٍ واسع لم تكتمل(MEHE)؛ فقد اقتصر الأمر على البدء بتطوير منصات تعليمية مثل "مدرستي" و"مواردي" لتوفير الدروس عبر الإنترنت لجميع المتعلمين (MEHE). كما وقد أعلن وزير التربية والتعليم العالي د حلبي خلال المؤتمر الدولي "من أجل لبنان" في 24 تشرين الأول، أي بعد سنة من بدء الحرب وبعد شهرين من انفجار أزمة النزوح، والذي دعا إليه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، عن خطة استراتيجية تعتمد على أربعة أهداف طلب فيها من المانحين والرئيس الفرنسي بشكلٍ خاص دعمها. وهذه الأهداف تقتصر على  ضمان الوصول إلى تعليم شامل وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي وتعزيز دور المعلمين من خلال المساعدات المادية وبناء نظام تعليمي مرن وقادر على الاستجابة للأزمات (الجمهورية).

     

     التحديات الرئيسية التي تواجه التعليم عن بُعد في ظل النزوح

    رغم كل الأزمات المتتالية التي عصفت بالقطاع التربوي، والتي  تمّ التطرق إليها في المقدمة، لم  يستخلص صانعو القرار العِبر منها  حتى الآن، فيحولوها على سبيل المثال إلى سياسات عامة سواء عبر اصدار تشريعات جديدة، كالقوانين أو المراسيم، أو  من خلال اتخاذ قرارت إدارية. إذ إنّ هكذا قرارات في مقدورها تمكين وزارة التربية بموارد مالية وبشرية مخصصة لإدارة الأزمات كإنشاء دائرة أو وحدة خاصة للتعليم في حالات الطوارئ، تكون مسؤولة عن إعداد إستراتجيات ومناهج التعليم وأدواته في حالات الطوارئ، وتنفيذ محاكاة دورية للتعليم في الأزمات وتدريب المعلمين والتلامذة على هذه التطبيقات.

     

    بالإضافة إلى غياب هذه السياسات  حتى الآن، فالعديد من المناطق اللبنانية التي نزح إليها مئات آلاف العائلات تفتقر إلى خدمات الإنترنت بالألياف الضوئية أو مصادر الكهرباء المستقرة، ما  جعل ويجعل التعليم عن بُعد  محفوفًا بصعوبات لوجستية كثيرة وأهمها عدم توفر الألواح الذكية أو الكومبيوتر لدى آلاف التلامذة والمعلمين. وكأنّ فاصل السنة الزمني بين اقفال مدارس المناطق الحدودية الجنوبية واقفال المدارس الكامل لم يكن كافيًا لينذر المعنيين لوضع الاستراتجيات اللازمة، والاستعداد العملاني للأزمة. هذا من دون أن ننسى واقع معاناة أفراد الهيئة التعليمية الذين يعانون من تدهور قيمة رواتبهم مقابل انهيار العملة والتضخم المتسارع مع الحرب، ناهيكم عن عدم تدريب المعلمين على تقنيات التعلّم عن بُعد، أو حتى تجهيزهم بما  يلزم لوجستيًا.

     

    الإجراءات المطلوبة

    تحتاج أزمات التعليم المتكررة المختلفة في لبنان منذ سنة 2011  حتى اليوم إلى إطار تشريعي شامل يقونن التعلّم في الحالات الطارئة، ويحدد أطره وآلياته الإدارية والمالية، كما يشرع وبشكل خاص التعلّم عن بُعد بكل مراحله. هذا إلى جانب إقرار قوانين تتعلّق بحماية حقوق الأطفال بالحصول على التعليم في ظل الأزمات حيث تواكب الاتفاقيات الدولية المختصة ذلك، وترسم أطر وأدوات اعتماد السياسات المناسبة لضمان وصول الجميع إلى التعليم.

     

    لهذا يجب أن تبادر وزارة التربية، بالتعاون مع الأطراف المعنية كافة، لاقتراح مشروع قانون التعليم في حالات الطوارئ، وعليها ألّا تكتفي كما هو الحال الآن بالإستجابة للأزمة بحسب مقاربات مبنية على ما تقدمه المنظمات الدولية والدول المانحة من برامج. فالمطلوب من وزارة التربية والتعليم العالي أن تضع استراتيجية تشاركية واضحة تؤطر جهود جميع الوزارات والمنظمات الدولية لتوفير الدعم المالي والتقني والبشري اللازم لتنفيذها. ومن المهم جدًا تمكين المُدرسين بالمهارات اللازمة عبر برنامج تدريب بمدى قصير ومتوسط وطويل الأمد حول التعليم في حالات الطوارئ  بدءًا من الدعم النفسي للمعلمين والتلامذة ووصولًا  إلى تحسين أوضاعهم المادية التي سحقت معظمهم، وشردتهم إلى مهن أخرى في سبيل مواجهة الفقر والجوع.

     

     

    أهمية معالجة هذه القضايا

    تعتبر معالجة هذه القضايا ضرورة حتمية لضمان استمرارية حق الأطفال في التعليم، حتى في ظل النزاعات المسلحة والأزمات المتكررة. فإهمال وزارة التربية  إلى ضرورة تطوير أطر تشريعية واستراتيجيات مستدامة للتعليم الطارئ قد يعرّض الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للخطر، ويهدد مستقبل جيل كامل من الأطفال الذين حُرموا من حقهم في التعليم. الأزمة الحالية تتطلب استجابة فورية على كل المستويات، التشريعية والمالية والبشرية. ولا يمكن الاستمرار في تجاهل مؤشرات  لبروز أزمات جديدة أشد تعقيدًا وضررًا التي سترافق الحرب، وتظهر وتشتد بعدها. 

     

    المراجع:

    [1] https://documents-dds-ny.un.org/doc/RESOLUTION/GEN/NR0/543/02/IMG/NR054302.pdf?OpenElement 

    [2] Nicolai, S., & Triplehorn, C. (2003). The role of education in protecting children in conflict. Network Paper: Humanitarian Practice Network (HPN).

    [3] Piasentin, E. (2016). The right to education in emergency situations: a rights-based assessment of the humanitarian response after the earthquake in Haiti. 

    [4] INEE (2018). Education in Emergencies. Retrieved from https://inee.org/sites/default/files/resources/ .

     

    كارلوس نفّاع

    أستاذ جامعي و مستشار متخصص في إدارة أزمات اللّجوء و السّياسات العامة. حائز على منحة زمالة فورد العالمية – 2020 ، وعلى جائزة وزارة الخارجية الألمانية – الوحدة الألمانية بعيون عربية- 2015. ترأس اللّجنة الإقليمية لإنتاج قاموس المصطلحات العربية لتقنيات المراقبة والتّقييم ضمن مشروع في مؤسسة أديان، و لجنة التّصنيف العربي المعياري للمهن في برنامج التّعاون الدّولي الألماني لإصلاح السّياسات وبرنامج تطوير التّبادل الأكاديمي اللبناني الألماني مع هيئة التّبادل الأكاديمي الألمانية. بالإضافة الى شهادة الدكتوراه اللبنانية في السّياسات التّربويّة، يحمل ماجستير في إدارة التّعليم الدّولي من جامعة لودفيغسبورغ-المانيا، وماجستير في العلوم السّياسية والإدارية من الجامعة اللّبنانية.


اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية